عندما سُئل الأديب العالمي نجيب محفوظ عمن يهديه جائزة نوبل، أجاب دون تردّد: "يحيى حقي".. نعم لقد أدرك محفوظ جيداً قيمة الأديب الكبير يحيى حقي، وإثراءه للأدب العربي طوال حياته بمؤلفات وصل عددها إلى 36 كتاباً، تنوّع بين الرواية والقصة والمقال والنقد الفني.
واليوم، ولأننا في "بص وطل" عوّدناكم على الاحتفاء برموز مصر الخالدة في كل المجالات؛ نفتح دولاب يحيى حقي في ذكرى مولده، صاحب القنديل الذي أضاء بحروفه صفحات لن تُنسى.. 7 يناير من عام 2011 يكون قد مرّ 106 أعوام على ميلاده، و 19 سنة على رحيله.
نتحدث اليوم عن مجموعته القصصية "دماء وطين"، التي يُطلق عليها مجموعة الصعيديات، نسبة لكثير من النصوص التي خطّها الكاتب أثناء تواجده بصعيد مصر. وأغلب الظن أنه يقصد بالطين أرض الفلاحين وفدادينهم. وقال "حقي" في تقديم المجموعة: "أحسب أن الذي حركنّي اليوم لتقديم هذا الكتاب للقراء، هو أن وطننا المحبوب -الذي كان يؤرقني ما عاناه من مظالم أوحت إليّ بهذه القصص- قد أذن الله له سبحانه وتعالى بمنّه وكرمه أن يفكّ أغلاله، ويحكمه أبناؤه، وتتمّ له العزة والكرامة، ويتطلع إلى مستقبل مجيد".
لقد كان كاتبنا الكبير يكتب بقلبه قبل أن يُصدقه قلمه. إنه يشعر بكل ما يدور حوله؛ فيعبّر عنه بأسلوبه الفريد الذي لم يستطع أحد مجرد الاقتراب منه طوال هذه السنوات الطويلة.
"البوسطجي".. كشف الستر عن أسرار الجوابات
أولى قصص المجموعة، هي رواية قصيرة تمّ تحويلها لفيلم سينمائي، ويقول عنها الكاتب عبد الوهاب الأسواني: "أعدّها أجمل ما كتب أستاذنا يحيى حقي في إبداعه القصصي، وهي أول عمل قصصي مصري تُستخدم فيه طريقة الفلاش باك".
وتتحدث القصة عن "عباس" الموظف المفتون بالقاهرة وازدحامها، ويرى أنه كالنحلة لا تقوى على العيش دون أشخاص حولها، ويتمّ نقله للصعيد؛ ليعمل ناظراً لمكتب البريد في "كوم النحل" بأسيوط؛ حيث يرى القوم هناك أن أقصى بهجة للعيد هي أن تُفصّل جلباباً جديداً!
ولم يجد "عباس" في تبديد هذا الملل سوى كشف النقاب عن رسائل أهل هذه القرية، وهو الغريب عنهم.. يعيش في أحداثها، ويتوقع أبطالها. وجد في ذلك السلوى والمتعة، ونجده يصف هذه الرسائل قائلاً: "قد تكون استجداء أو تهديداً، شكوى أو تحكماً، بعضها قسوة وبعضها استرحام، قد تكون محبة أو عداء. مكتوبة بالعطر أو بالدم، قد تكون كلها أرقاماً تمثل خراب بيوت، وقد تظفر وحدها دون غيرها بدليل خيانة زوجة طاهرة، أو اعتراف بجريمة. وقد تكون بعد ذلك تافهة، غثة، تمثل ما في الحياة من رغاء كهدير الإبل؛ ولكنها -برغم ذلك- لها قيمتها لأنها مغلقة، مجهولة، مطوية".
وعندما بدأ عباس في قراءة هذه الجوابات، تسبّب تدخله في كارثة وقعت بالقرية.
"قصة في سجن".. الصعيدي الذي تأسره امرأة
ثاني قصص المجموعة، تلك التي تسرد في عذوبة وقائع راعي الغنم "عليوة"؛ ذلك الشاب الذي عاش طول عمره يرهب النقطة، ويرتعش أمام العمدة، ويُحيّي العساكر باحترام؛ ولكنه سقط بسبب فتاة غجرية وقع في شباكها.
إنهم غجر مشهورون بكونهم لصوصاً يسرقون دائماً، ولديهم الحيل التي لا تنفد. وتحّول "عليوة" من الفلاح المسكين، إلى غجري مُطارد من قِبَل الدوريات.. وأخذ يحكي قصته لرفيقه في السجن. وتستطيع أن تستنبط من هذه القصة خطورة تنازل الفلاح عن تقاليده القروية؛ فسوف يتحول إلى وحش مختلفةً طباعه تماماً.
"أبو فودة".. الجبل الصعيدي القاتل
ثالث القصص، نُشرت عام 1933 بجريدة السياسة الأسبوعية. ويقصّ بها حكاية "إسماعيل"؛ ذلك الرجل الفلاح الذي تزوّج من امرأة سيئة السمعة. ويصف يحيى حقي حالة أمثاله في بلاغة جامعة قائلاً: "وهو الآن لا يستطيع الثقة بإخلاص زوجته ولا بعفافها؛ ولكنه يعيش كما يعيش زوج كل امرأة خليعة. إذا كان يهواها: تأجيل مستمرّ لليقين، واستساغة دائمة للبقاء على الشك".
ويظهر "جاسر" ابن عمته، الذي خرج لتوّه من السجن، بعد جريمة قتل. وتستولي زوجة "إسماعيل" على قلب "جاسر". وبسبب "المرأة" مرة أخرى تقع الكارثة عند جبل أبو فودة. وكأن حقي يريد أن يوطّأ لأغلب الجرائم والمشكلات في بلاد الصعيد بأن سببها النساء. وفي هذه القصة تحديداً تناول كذلك وصفاً بديعاً لدور النيل في الأرض وريها.
"حياة لص".. حرامي بالاختيار
رابع القصص، التي نُشرت في عام 1926، تتحدث عن الفقراء الذين يتجهون للسرقة لأجل لقمة العيش، والصرف على كوم اللحم. وتقرأ فيها وصفه لاختلاف الفقراء بين القرية والمدينة؛ فلاحو القرية فقراء، ولكن لا يمتاز بعضهم عن بعض؛ ولكنه في المدينة فقير وسط أغنياء.. والمدينة للقروي كالخمر للشارب، تسحره وتأسره فينقلب عبداً ذليلاً لها.
عندما تقرأ النص وتلمح تاريخ الكتابة تتبين كم مرّ من عقود وأزمنة على القصة؛ ولكن قيمتها وأثرها لا يزالان حاضرين؛ وحينئذ تُدرك القيمة الأدبية المرموقة التي شغلها يحيى حقي.
"قهوة ديمتري".. مقهى الجميع
القصة الخامسة في مجموعتنا "دماء وطين"، وبهذه القصة يغوص الكاتب في تلك المقاهي التي بدأت في الانتشار، ورآها الكاتب ظاهرة كبيرة الأثر في حياة الشعب، وتعادِلُ أهميتها أية ظاهرة أخرى.
يا إلهي!.. لقد كان هذا الكلام في العشرينات من القرن الماضي. تشعر به يصف حال مقاهي هذه الأيام وصفاً دقيقياً؛ حيث "ديمتري"؛ ذلك اليوناني الذي فتح مقهى واهتمّ بتأسيسه وبتفاصيله وبمعاملة زبائنه، وأصبح يستقطب أهل البلدة جميعاً. وبات لقاء العمدة في قهوة ديمتري أسهل من لقائه في داره.. وهؤلاء أيضاً الذين وجدوا سلواهم في المقهى؛ حيث الطعام، والشراب، واللعب، وقراءة الجرائد، وحل ألغازها.
"من المجنون؟".. عندما يُحوّل المجتمع العاقل لمختلّ
القصة الأخيرة، وفيها يحكي عن "محسن أفندي بن عبد المطلب" الذي يسكن إحدى القرى بمحافظة دمياط، ويعكف ليلاً ونهاراً على كتابة تقارير واقتراحات يُرسل بها للحكومة، ومن هذه التقارير يمكن أن نقرأ: "إن في مظاهر الدولة المصرية متناقضات كثيرة. والجيش المصري كافة من جنود وضباط لا عمل له؛ لأن الغرض من الجيش الحرب؛ وحيث إننا لن نحارب أحداً؛ فلا لزوم للجيش، ولا يبقى بعد ذلك مبرر لوجودهم وصرف مرتباتهم الطائلة وأكلهم مجاناً من خزينة الدولة؛ ولذلك فإنه يجب تشغيلهم في الأرض البور".
هكذا.. تجد أن يحيى حقي كان ينظر لكل هموم ومشكلات المجتمع من حوله، ويُعبّر عنها على لسان أبطاله في قِطَع سردية بالغة الإحكام والحكمة. وقد غاص في قلب المجتمع القروي في هذه المجموعة حتى في ألفاظه، التي جاءت بدقّة لا يعرفها سوى أهل هذه البلاد بالفعل.
وأجد نفسي بعد الانتهاء أتذكر نصيحة عمي -رحمه الله- وإصراره المستمرّ في سنوات القراءة الأولى لي على أن أقرأ لحقّي، وأدركت أنني لو لم أقرأ له لفقدت قيمة ثقافية بالغة الثراء. وعندما قرأت له وجدته قد غمرني وأفادني بالكثير.
بقي أن أشُير إلى أن هذا العمل وغيره لكاتبنا الكبير، يمكن الحصول عليه بسهولة ضمن سلسلة الأعمال الكاملة التي تُصدرها دار نهضة مصر.